ومن ناحية ثانية، فإن الإسلام يوجه نظر الإنسان إلى نوعية اللذات التي يكسبها في هذه الحياة، فهناك لذات مادية وأخرى معنوية، واللذات المعنوية لاتقل إسعادا للإنسان حينما يمارسها عن اللذات المادية بل قد تفوقها حينما يفهم الإنسان الممارسة للملذات المعنوية فقد فطر الله الإنسان وخلق فيه استعدادات وميول للذات المادية الجسمية والمعنوية.
فعلى سبيل المثال خدمة الوطن، حينما يخدم الفرد وطنه فإنه لا يستحصل من ذلك لذة مادية وإنما لذة معنوية لأنه قد يضحي بماله، وبأهله، وبنفسه، في سبيل حماية وطنه وتقدمه فهل هذه لذة مادية أن يقتل الشخص في سبيل حماية وطنه؟ كلا.
ولأن الإسلام ينسجم مع فطرة الإنسان وقائم على المعرفة الكاملة بطبيعة الإنسان، فقد وجه الإنسان إلى لذاته المعنوية وأطر نظرته للذات المادية، لكي لا ينساق الإنسان مع القسم الآخر من طبيعته المادية ويترك الطبيعة المعنوية التي هي أيضًا جزء رئيسي من كيانه إذا فقده إنسانيته وأصبح كسائر المخلوقات الحيوانية.
من هنا فالإسلام يحث المؤمن على التضحية والعطاء وخدمة الآخرين وعلى الجهاد والايثار. والإنسان حينما يمارس هذه الأعمال التي تشكل عطاء من ذاته وليس أخذًا لذاته وهو عارف بقيمتها فإنه يشعر بلذة عميقة تغمر كيانه إلى الأعماق، أين منها لذات أصحاب الشهوات والأهواء.
كمثال على ذلك: لو أن شخصًا في يوم من الأيام ذهب إلى عمله وحصل على 1000 دينار من تجارته، لاريب أنه سوف يفرح كثيرًا، وفي المقابل لو أن مؤمنًا أنفق في سبيل الله 1000 دينارًا بشرط أن يكون عارفًا بقيمة ما ينفقه، فلا ريب أن لذته سوف تكون أعمق من لذة ذلك الإنسان الأول.
والإسلام حينما يحث على الإيثار لا يقصد جلب الألم في نفس المؤثر بل جلب الراحة خصوصًا حينما يرى أولئك الذين أنفق أمواله عليهم يعيشون في سعادة فإنه يرتاح إلى هذه السعادة بشكل كبير، ويلفتنا القرآن الكريم إلى صفة من صفات المؤمنين المخلصين ويقول:
(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9].
فعلى الرغم من حاجة المؤمن في بعض الأحيان إلاّ أنه يتنازل عن هذه الحاجة في سبيل إغناء الآخرين المحتاجين، كيف يرضى الإنسان بنفسه أن يترك حاجته ويتوجه إلى سد حاجات الآخرين؟
أيفعل ذلك إلاّ من أيقن بدور هذه العطاء فلأنه يحب ذاته حبًا حقيقيًا، أعطى الآخرين مما عنده وآثرهم على نفسه لأنه يعتقد أن هذا الإيثار ينفعه يوم القيامة. يقول الله سبحانه وتعالى:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا) [الجاثية: 15].
إن ذلك الشخص الذي يعطي طعامه للآخرين وهو جائع، لم يخسر أبدًا وإنما ربح، فهو يشبه إلى حد بعيد التاجر الذي يضع رأس ماله في مشروع ليستلم أرباحه فيما بعد.
وأهل البيت (عليهم السلام) خير قدوة لنا في الإيثار، ففيهم نزل قوله تعالى في سورة الإنسان:
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) [الإنسان: 8-10].
«وعن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله (ص) في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما، إن برئا مما بهما؛ أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا، وما معهم شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعًا، واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه، وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صيامًا، فلما أسموا ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.
فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال: ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها، قد التصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبرائيل وقال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك، فأقراه السورة».
هذا هو المفهوم الصحيح لحب الذات، فالإنسان الذي يحب ذاته يجب أن يعرف أنه بالعطاء يحب ذاته ويخدمها ويوفر لها سعادة هانئة في المستقبل.
جربوا أيّها الإخوة اللذة المعنوية، لذة العطاء أن تأكل او أن تعطي، قد يبدو للواحد منا أنه عندما يأكل يلتذ أكثر لكنه لو جرب أن يعطي لاكتشف أن عطاءه يوفر له لذة أكثر.
إن الإنسان يخطئ في حبه لذاته حينما يدرك الفهم الإسلامي الصحيح لحب الذات، فهو يريد أن ينفع نفسه فيضرها، يريد أن يحب ذاته فيؤذيها.
الأنانية مرض خطير يصيب الإنسان، فهي تعني حب الذات بطريقة معكوسة هل رأيت حب الذات بطريقة معكوسة؟
نعم؛ إن من يحصر إسعاد الذات بالملذات الدنيوية المادية وينسى اللذات المعنوية فهو يضر ذاته ولا ينفعها، وعنهم قال الله تعالى:
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).