مقالات: الإسلام والفطرة الإنسانية      •      حقائق عن التدخين      •      آثـار الدموع      •      التنظيم لدى الشباب      •      الحجاب الشرعي      •      مسائل وردود: حكم الموسيقى غير المطربة استماعاً وتعلماً      •      هل يجوز الصلاة خلف الإمام الذي يستلم راتب من الحكومة؟      •      في من ظهرت لديه علامة بلوغ واحدة فقط      •      التمتع بالبكر دون إذن وليها      •      ماذا أعمل لكي أتوب عن جريمة الزنا؟      •     

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «
» ليلة القدر
» الكاتب: آية الله العظمى الشيخ محمد أمين زين الدين (قده) - قراءات [ 8310 ] - نشر في: 2009-09-12           [طباعة] [إرسال لصديق]


... في ذكرى القرآن، وللأيام قسط منها كما للنفوس، وللتاريخ تشريف وتكريم كما للإنسانية.

على أن القسط الذي تناله الأيام من هذه الذكرى، والشرف الذي يصيبه التاريخ يعودان آخر الأمر فيصبحان حَظًّا من حُظوظ الإنسان.

وشهر رمضان هو الشهر الذي ميّزته العناية بهذا القسط، وليلة القدر منه هي التاريخ الذي اختصّته الحكمة بهذا التشريف والتكريم.

قد تكون هذه الليلة المباركة من هذا الشهر العظيم وقتًا لنزول القرآن جُملة على قلب الرسول (ص)، ثم تنزّل - بعد ذلك - مفصّلاً مرتّلاً طيلة عهد الرسالة، فقد قال بهذا مفسرون وأوّلوا به أحاديث.

وقد يكون هذا الشهر - وهذه الليلة منه على الخصوص – تاريخًا لنزول أول نجم من نجوم القرآن، فقد ذهب إليه ذاهبون من علماء التفسير أيضًا..

وعلى أي حال فلهذا الشهر ولهذه الليلة صلة وثيقة بنزول القرآن، وقد شهد بِها القرآن وناط بها ذكراه، وأرّخ بها نزوله، فقد قال في سورة البقرة: (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان).

وقال في سورة القدر: (إنا انزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر ؟، ليلة القدر خير من ألف شهر).

شهر رمضان وليلة القدر هما مطلع هذا النور الإلهي الذي أضاء للإنسانية من ظلمة، وأنقذها من هلكة، وبصّرها من عمى، وهداها من ضلالة، أفليسا جديرين إذن بالتكريم؟!.

أليس من الحق أن يكون لهما في الإسلام شأن لا يُجهل، ومنزلة لا تضيع؟

أليس جديرًا بهذا الشهر أن يكون موسم البر، ومضاعفة الأجر، وبهذه الليلة أن تكون خيرًا من ألف شهر: أن يكون عمل البر فيها خيرًا من عمله في ألف شهر كما نطقت به أحاديث أهل البيت (ع)، وفسرت به الآية الكريمة ؟

وفريضة الصوم هذه التي كتبها الله على الذين آمنوا لعلهم يتقون، أليست تكريمًا لهذا الشهر، وذكرى للقرآن، وشكراً لنعمة نزوله ؟

إن الآية الكريمة السالف ذكرها قد تشير إلى ذلك، فإنها قالت: (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه...).

نعم وهكذا يعود القسط الذي أصابه شهر الصوم من ذكرى القرآن والذي أصابته ليلة القدر ففضّلت به على ألف شهر، يعود فيصبح حظًا جديدًا يسعد به الإنسان.

 

ذكرى ليلة القدر

قال لي الأعزاء الذين دعوني للمشاركة في هذا الحفل: (إنها ذكرى ليلة القدر)، فأكبرتُ الذكرى، وأكبرت القصد.

اقترنت في خاطري مع هذا الاسم الكريم قولة الله (سبحانه) عن كتابه:

(إنا أنزلناه في ليلة القدر).

وقوله (عز اسمه): (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين).

اقترنت هاتان الآيتان في خاطري مع اسم ليلة القدر، كما يقترن الأليف بالأليف، وكما يجتمع الحبيب إلى الحبيب، ونزول القرآن في ليلة القدر - في ما يعتقده كل مسلم - أعظم حادث أوجب لها الفضل، وأكبر ما فرق فيها من أمر حكيم.

 

ذكرى القرآن والاسلام

وإذن، فذكرى ليلة القدر إنما هي ذكرى القرآن كتاب الله الكريم، بل وذكرى الإسلام دين الله العظيم.

وإذن فهي ليست ذكرى بالمعنى الذي يعرفه الناس حين يُطلقون هذه الكلمة، وحين يقيمون الاحتفالات والذكريات، كما قلت في حديث كتبته عن ذكرى القرآن قبل عام.

إنها ليست ذكرى حادث مرّ وجوده، ومرّ تأريخه، وإنما تقام ذكراه ليستبقى بعض آثاره.

ليست ذكرى شيء انتهى أمده من الوجود، لتبقى عظمته خالدة في القلوب.

ولكنها تعهّد صلة، وتجديد ميثاق، وإحكام عهد.

إنها تعهّد المؤمن صلته بالكتاب الذي صدّق، وبالدين الذي آمن، وإنها تجديد ميثاقه لربّه الذي أخذه عليه في عالم الميثاق، ثم انطبع في كيان هذا المخلوق، وفي أغوار نفسه، طاقة قويّة تستمدّ منها ركائز الفطرة، ونورًا هاديًا تقتبس منه براهين الفكرة:

(وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم، ألسـت بربكم؟، قالوا: بلى، شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم، أفتهلكنا بما فعل المبطلون).

إنها تعهّد صلة لم ترثّ ولم تَخلُق، وتجديد ميثاق لم يَهِن ولم يتزلزل، وأحكام عهدٍ لم تهِ رابطته، ولم يُنقَض مبرمه، ولم تتزعزع أسُّه، ولكن هكذا يريد الله لعبده المسلم، أن لا تزداد صلته به إلا قوّة، وأن لا تزداد عقيدته بتوحيد إلا رسوخًا وثباتًا، وأن لا يزداد إيمانه بدينه إلا إشعاعًا وانطلاقًا، وأن لا تزداد عزيمته في جهاده دون عقيدته، ودون دينه إلا شدّةً ومضاءً، وأن لا يزداد صوته في الدعوة إلى الله والهداية إلى سبيله إلا علوًّا وارتفاعًا:

(إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون).

(واذكروا نعمة الله عليكم، وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم: سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليمٌ بذات الصدور).

هذه هي ذكرى ليلة القدر - أيها الاخوة -، أو بالأحرى هذه هي ذكرى القرآن في ليلة القدر.

وليكن معنى نزول القرآن في ليلة القدر ما يكون، وليقل علماء الحديث وعلماء التفسير فيه ما يقولون.

ليكن معنى ذلك أن هذه الليلة المباركة أنزل فيها أول نجم من نجوم القرآن، كما يرى البعض، أو أن القرآن أنزل فيها جملة واحدة، وليكن ببعض مراتب النزول كما يراه آخرون.

ليكن معنى نزول الكتاب في هذه الليلة وفي هذا الشهر أي معنى، فإن الأمر يستوجب الاهتمام، ويستوجب التعظيم.

 

نور وكتاب مبين

(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي بهِ الله من اتّبع رضوان سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم).

(الله نزّل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربّهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله).

المعجزة الخالدة للشريعة الخالدة، والمنهاج الكامل للسعادة الكاملة، والروح الحي الذي يهب الحياة الطيبة، والنظام العدل لحكومة الحق العادلة، والدستور الثابت الباقي الذي لا عزّ إلا بامتثاله، ولا نصر إلا في ظلاله.

وإذا كان الإسلام دين الحياة ودين الأبد ودين القرون، وإذا كانت عقيدة الإسلام هي العقيدة التي لا يقبل الله غيرها، وإذا كانت شريعته هي الشريعة التي لا يرتضي سواها.

(ومن يبتغ غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين).

.. إذا كان كل أولئك حقًا لا ريب فيه - وكل أولئك حق لا ريب فيه - أفليس من حق البشر كافة أن تقام لهم المعجزة الهادية الباقية التي تكشف الظنون وتخلد مع القرون؟.

أوليس من حقهم كافة أن يعيّن لهم المنهاج الكامل للسعادة، والنظام العادل للحياة، والسبيل السويّ للخُلق، والقاعدة المتينة للتربية، والقوانين الحكيمة للإجتماع والاقتصاد والحكم والسياسة والتدبير، وأن ينزّل عليهم الكتاب الجامع المعصوم الذي يجمع كل هذه السّمات ويفي بكل هذه الغايات ؟.

بلى، وهكذا كان، ووفت الحكمة المشرّعة الهادية للخلق بما يريدون، وأنزلت (القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم اجراً كبيراً ).

 

إعجاز القرآن

هذا هو السر الأكبر في إعجاز القرآن.

فهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في كل جهة من جهاته، وهو الذي لن تبلغه القدرة المحدودة في أي أفق من آفاقه.

أما وجهة البلاغة فهي بعض وجوه الإعجاز فيه، وهي آخرها جميعًا، إذا ابتدأنا بالتعداد من أرفعها مكانًا.

والإعجاز - في واضح معناه - ظهور القدرة العليا في أثرٍ من آثارها، حتى يستبين جليًا للقدرة المحدودة أن الإتيان بمثله ليس من المستطاع.

والإعجاز هي الظاهرة التي تختص بها قدرة الله (تعالى) في كل ما تصنع، وفي كل ما توجِد، فلا تصنع إلا معجزة، ولا توجد إلا آية ..

(وكأينّ من آية في السماوات والأرض يمّرون عليها وهم عنها مُعرضون).

(وما كان لرسول أن ياتي بآية إلا بإذن الله ).

من هذا التراب الواطىء الحقير الذي نستهينه ونطؤه بالأقدام، ونضرب بضعته الأمثال.

من هذا التراب أنشأت القدرة مخلوقًا فكبرّ الكون وسبّحت الأشياء، وسجد الملائكة كلّهم أجمعون.

ومن هذه الحروف الميسورة لنا أن نركّب منها ما نريد، وندلّ بها على ما نريد، ونتفننّ في تركيبها، وفي الدلالة بها كما نريد.

من هذه الحروف التي ننطق بها دون كلفة، ونتفاهم بها دون عسر، ونتنافس في الإفصاح بها دون عناء.. من هذه الحروف يوحي الله كلاماً، وينزّل كتاباً، فتطأطأ له الهام، وتخضع له الأعناق، وتذهل له الألباب.

(قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن. لايأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ).

 

نحن وذكرى ليلة القدر

هذه هي ذكرى ليلة القدر - أيها الاخوة - وهذه هي ذكرى القرآن، فما موقفنا نحن المسلمين منها ؟.

فهل نكتفي بتعداد فضائل الليلة، ووجوه إعجاز الكتاب، ثم نفترق وكأننا صنعنا لإيماننا ولكتابنا ولدعوتنا كلّ شيء ؟!.

إن كتابنا - أيها المسلمون - يدعونا للعمل فهل نحن عاملون؟. وهل نحن جادّون أم هازلون؟.

هل نملأ الفراغ العقائدي الذي تقاسيه ناشئتنا وشبابنا، بل وشيوخنا وكهولنا؟.

وهل نطبّق مناهج الله (سبحانه) على واقعنا المؤسف، فنشفي بها عللاً ونصلح زللاً ؟!.

هل نبلّغ دعوة الله وهدى كتابه كل ذي سمع ممن حولنا، وكل ذي قلب ؟!.

إنها أمانة الله في رقابنا - أيها الاخوة - فهل نحن جادّون في أدائها أم متكاسلون ؟.

(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردّون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ).

 

- وصدق الله العظيم -

 
إلى أعلى إلى الخلف - Back

 

أنت الزائر رقم
2167